إدارة الجودة الشاملة
د. سُمية عيد
عرفت الجودة الشاملة
منذ القدم، فقد عرفته الحضارات القديمة كالحضارة
البابلية والفرعونية واليونانية والإغريقية القديمة، وقامت هذه الحضارات بتحديد اللوائح والجزاءات التي قد تقع على العاملين نتيجة إهمالهم وتقصيرهم، ويأخذ أسلوب الجودة في فلسفة أفلاطون شكل التأكيد على الكمال في الحق المطلق والخير المطلق .
أما في الحضارة الإسلامية، فقد أخذت الجودة شكل التأكيد على إتقان العمل، حيث تعكس المبادئ التي تبناها الإسلام كالاهتمام بالشورى والمساواة والعدالة وحرية الإنسان واحترام العمل والعلم، وتؤكد الشريعة الإسلامية على الكثير من القيم الأخلاقية التي تدعو إلى الإتقان في مختلف شؤون الحياة، ومن هذه القيم استثمار الوقت، وتطوير المهارات العلمية والفنية
والإدارية، وضرورة الالتزام بالموضوعية والدقة، وأهمية اتخاذ القرار بالمشورة ، بالإضافة إلى تبني مبدأ الرقابة الإسلامية سواء أكانت خارجية أم ذاتية .
في حين
ظهرت الحرفية ونقابة التجار والصناع في أوروبا خلال القرن الثالث عشر،
حيث كان الحرفيون يمثلون المدربين والمفتشين معاً، فمن جهة كان لهم دراية جيدة بالتجارة والمنتجات والبضائع والعملاء ويعرفون عملهم حق المعرفة، ومن جهة أخرى كانوا يقومون
بتدريب الآخرين على القيام بالعمل ذي الجودة العالية، وتم وضع المعايير والمقاييس للحكم على
المنتجات وكان المجال مفتوحًا لأي فرد للقيام بوضع معايير للجودة تعكس وجهة نظره .
انطلاقاً مما تقدم، أصبحت
الجودة الشاملة في العصور الحديثة علماً له أصوله، وأصبحت قضية قابلة
للقياس وسن القوانين والمواصفات، وتم بلورة مفهوم للجودة في المراحل الأولى للحرب العالمية الثانية، حين تعرضت أمريكا لمشكلة تتعلق بنظام الإعداد العسكري؛ الأمر الذي يستدعي تشكيل فريق لتحسين الأداء النظامي، وقد حقق هذا الفريق نجاحاً عالياً في إعادة تخطيط هذا النظام، وتوظيفه
لتحسين جودة المعدات العسكرية، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية في الأربعينيات من
القرن الماضي، قام كل من ديمنج وشيوارت بإلقاء محاضرة حول الجودة الشاملة على المهندسين والمديرين الأمريكيين ، لتشجيعهم على ضرورة الاهتمام بصناعة المنتج الأفضل،
وقد حمل ديمنج أفكاره إلى اليابان التي دمرتها الحرب والتي كانت تتطلع إلى إعادة بناء
اقتصادها، وقام بتدريب اليابانيين على أسلوب حل المشكلات والعمل الجماعي، ووضح لهم
مفاهيم ضبط الجودة، وقام بتطبيق نظام الثواب والعقاب عليهم وفقاً للضبط الإحصائي كأسلوب
من أساليب الإدارة ،
الأمر الذي دفع اليابانيون إلى التمسك به، والاستعانة به في سعيهم إلى تحسين الجودة.
من هنا تطور الاهتمام بالجودة الشاملة ليصبح ظاهرة عالمية، حيث اهتمت المنظمات والحكومات في
العالم بها بشكل خاص، وأصبحت إدارة الجودة الشاملة من الأولويات العليا للمنظمات التي تسعى للحصول على ميزات تنافسية؛
حيث باتت الجودة الشاملة منهجاً دولياً وهدفاً استراتيجياً .
من هنا فإن الجودة الشاملة هي تلك الدرجة من التميز الذي يمكن التنبؤ به
باستعمال المعايير الملائمة وقليلة التكلفة، المشتقة من المستهلك، بحيث ينطبق ذلك المبدأ على العملية الإنتاجية والمنتج النهائي معاً ، وهي القدرة على تحقيق الرغبات
والأهداف بشكل يتطابق مع التوقعات، ويحقق الرضا
التام ، وهي أفضل حالة مثالية يمكن أن يكون عليها شيء ما، بحيث لا يمكن التقليل منه.
في هذا السياق، تطور مفهوم الجودة الشاملة مع تطور الزمن، فأصبحت تُمثل عملية تحول في طريقة إدارة المنظمة، بحيث تتضمن تركيز طاقاتها على التحسينات
المستمرة لجميع العمليات والوظائف بمراحلها المختلفة،
ويُمكن القول بأن إدارة الجودة الشاملة هي: فلسفة إدارية تهدف إلى التحسين والتطوير المستمريْن من خلال أنشطة منظمة تسعى من جهة إلى تحقيق احتياجات وتوقعات العميل والمجتمع، ومن جهة أخرى تسعى إلى
تحقيق أهداف المؤسسة، وذلك بإتباع أفضل الطرق وأقلها تكلفة من خلال الاستخدام الأمثل لطاقات جميع العاملين
كما أُضيف إلى إدارة الجودة الشاملة بأنها تمثل
منهجاً تنظيمياً متكامل يهدف إلى تحقيق حاجات العميل وتوقعاته، بحيث ينبغي على كل من المديرين والموظفين استخدام الأساليب الكمية في القياس بهدف التحسين المستمر في العمليات،
والخدمات في المنطقة.
على هذا الأساس فقد تم تعريفها بما يلي:
·
مجموعة من المبادئ
الإرشادية والفلسفية التي تؤدي إلى التحسين المستمر لعمل المنظمات باستخدامها لأساليب إحصائية، ومصادر بشرية ومادية ضرورية، بالإضافة لجميع العمليات التي تتم داخل التنظيم، وتلبي حاجات العميل بأفضل صورة حاليًا ومستقبلاً
.
·
فلسفة وأهداف عامة ومبادئ تعين وترشد المنظمة، وتقودها إلى التطور المستمر باستخدام أساليب كمية، بالإضافة إلى توظيف أفضل الموارد البشرية ، وتُمثل جميع العمليات التي تتم داخل المنظمة بحيث تؤدي إلى تحقيق وتلبية الحاجات المختلفة.
·
أسلوب قيادي ينشئ فلسفة تنظيمية تندمج
ببنية المنظمة لتحقق أعلى درجة ممكنة من السلع والخدمات الجيدة،
ويعتمد نجاح هذه الفلسفة على قناعة أفراد المنظمة بمبادئها التي تضيف قيمة وجودة للمنظمة.
انتقل مفهوم الجودة الشاملة إلى ميدان التربية والتعليم في الولايات المتحدة الأمريكية على يد العالم مالكولم بالدريج في عام 1981 حيث كان ينادي باستمرار بتطبيق مبادئ الجودة
الشاملة في جميع المجالات ومنها التعليم، وفي
عام 1993م ، أعلن رونالد براون أن جائزة مالكولم في الجودة قد امتدت لتشمل قطاع التعليم مما أدى إلى تبني تطبيق الجودة في التعليم
بشكل جدي، حيث بدأ تنفيذ الجودة الشاملة في المجال التعليمي.
كذلك انتقل هذا المفهوم إلى المملكة المتحدة في مجال التعليم، وطبقت معايير
الجودة الشاملة فيه في بداية التسعينيات من القرن الماضي، عندما قامت لجنة من نواب رؤساء الجامعات ومديري المدارس بإنشاء وحدة فحص أكاديمي لدراسة الجودة الأكاديمية في الجامعات
البريطانية، وبالتالي أصبح التعليم خاضعاً
لمعايير إدارة الجودة الشاملة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا واليابان .
لكي يتم تتبع التطور في تطبيق إدارة الجودة الشاملة في المؤسسات التعليمية، فهي في تزايد مستمر سواء في أمريكا أو الدول الأوروبية، أو اليابان، أو العديد من الدول النامية، أو الدول العربية ، إذ تتمثل في العالم العربي بمحاولات الإصلاح التربوي التي كانت مرادفة لمحاولات تحسين
الجودة، واعتبر تحسين التربية سلسلة من العمليات الإصلاحية لمعالجة المشكلات التي يعاني منها النظام التربوي العربي، وذلك بتقديم الحلول المناسبة، وبذلك أصبح معيار الجودة منبثقاً من طبيعة المواجهة بين المشكلات وبين الحلول المطلوبة لها .
استناداً إلى ما تقدم، يُمكن طرح مراحل الإصلاح في الوطن العربي لتطبيق الجودة الشاملة، كما يلي:
المرحلة الأولى : بدأت بعد الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي في نهاية الأربعينيات وبداية
الخمسينيات من القرن الماضي، حيث أدخلت معايير جديدة على تحديد الجودة يركز معظمها على
اللغة العربية، وعلى تعليم التاريخ والجغرافية والتربية الوطنية، كما يركز على ضرورة تأمين
الالتحاق بالتعليم وعلى نطاق واسع.
المرحلة الثانية : بدأت في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، واستمرت لمدة ربع قرن فيما يعرف بالمرحلة الاشتراكية والتي أثرت على نواح عديدة في العالم العربي، وقد تميزت هذه المرحلة بالمناداة بديمقراطية التعليم وتكافؤ الفرص، مما أدى إلى توسيع التعليم عددياً وبشكل هائل ، ونادت بقطع العلاقة بين المعايير الوطنية والمعايير الأجنبية من خلال محاولة وضع معايير وطنية خاصة بالواقع العربي، وتميزت بالتركيز على معايير جديدة تتصل
بالربط بين التعليم وبين احتياجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب القضايا الوطنية.
المرحلة الثالثة: بدأت في مطلع الثمانينيات، وركزت على العملية التربوية في
غرفة الصف، وبحثت في ضرورة إعادة التقويم، و في سبل تحسين الأداء مع الاهتمام بمسألة الكم.
المرحلة الرابعة : بدأت في التسعينيات من القرن الماضي، وسميت بالمرحلة الوضعية أو المختبرية، حيث سعت محاولات الإصلاح إلى الربط بين السبب والنتيجة متأسية بالبحوث في ميادين العلوم التطبيقية، وتم استنباط المعايير لتحديد مستويات الأداء، واستنباط أدوات القياس القادرة على قياس الأداء بالنسبة للمستويات، ثم المقدرة على الربط بين تغير مستوى الأداء، وبين
مختلف المدخلات في عمليات التعليم والتعلم .
المراجع
ـ إبراهيم، أحمد. ( 2003 ) الجودة الشاملة في الإدارة التعليمية والمدرسية. الإسكندرية: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر.
ـ جودة، محفوظ (2004). إدارة الجودة الشاملة- مفاهيم وتطبيقات. عمان: دار وائل للنشر والتوزيع.
ـ حمودة، خضر (2000).إدارة الجودة الشاملة. عمان:: دار المسيرة للنشر والتوزيع.
ـ الدرادكة، مأمون والشبلي، طارق. (2002) الجودة في المنظمات الحديثة.عمان:: دار الصفاء للنشر والتوزيع.
ـ عقيلي،
عمر وصفي.
(2001) المنهجية المتكاملة لإدارة الجودة الشاملة. عمان: دار
وائل للنشروالتوزيع.
ـ علاونة،
معزوز
( 2004 ) . مدى
تطبيق مبادئ إدارة الجودة الشاملة في الجامعة العربية
الأمريكية من
وجهة نظر أعضاء هيئتها التدريسية.
مؤتمر النوعية في التعليم
الجامعي
الفلسطيني. جامعة القدس المفتوحة. رام الله،
من 3-5 تموز.





ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق